ليست الكتابة بالأمر الصّعب ، ما عليك سوى أن تجلس أمام آلة الكتابة وتبدأ بالنزيف
أرنيست همينغوي
كثيرٌ منّا عندما يرى وقائعَ وأحداثًا مؤلمةً ، يبدأ عقله فورًا في التفكير فيها، وعندما ينشغلُ العقل أكثر وأكثر وتبدأ هذه الوقائع في أخذِ حيّزٍ كبيرٍ من تفكيرهِ، يعلن حينها القلم تجسيد تلك المعاناة لتستمد الكتابة بهاءها وتولد الكلمات لتصبح الكتابة هنا صوت مَن لا صوت له، صوت الإبداع والمعاناة فالإبداع وليد المعاناة، ولا إبداع بدون معاناة.
3
… ليلُ الشّتاءِ لا يُشبهه ليلٌ
حدثَ ذلك في ليلةٍ تعانقت فيها السّحُبُ وعزفَ
المطرُ ألحانًا ، فتناهى إلى الأذنِ صوت طَرَقات
حبّات المطر العذبةِ على حوافِ النّوافذِ مُشكّلةً
أجمل الإيقاعاتِ ، ليمحو الضباب الذي نزل ليعانق
الأرض.
5
فتتصاعدُ أبخرةُ المشروباتِ السّاخنةِ اللّذيذةِ لتملأ
أرجاء المنازل ، فلا يخفى على أحدٍ أن الشّتاءَ حلَّ
ببرودةِ طقسِهِ ودفء طُقوسِهِ وأجوائِهِ.
7
في تلك اللّيلةِ كرهتُ أن أبقى قابعةً في غرفتي
فخرجتُ لأستنشقَ عبيرالورود وقطرات المطرِ
تتقاطرُعليها بكلِّ رقّةٍ … لأرى الأشجارَ وهي
تغتسل من حرّ الصّيف ، ولتستقبل الشّتاء بكلِّ لهفةٍ
وانتظار.
9
كنتُ أرى قطرات المطرِ تهطلُ لتجري على
الأرضِ مكوّنةً جداول من المياهِ الرّقيقةِ التي
تنسابُ بين قدمي.
11
سرتُ في الشّارعِ مواجهةً ريحًا عاتيةً تصفعُ
وجهي وتلسعُ ساقي وتتسرّبُ تحت معطفي،
فيقشعرّ جلدي ويرتعشُ جسمي وتصطكُ أسنان
فانطلقُ مهرولةً حانية ظهري دافنةً رأسي بين
كتفي ، ومن حينٍ لآخر أُخرجُ رأسي لأرى لمعان
البرقِ يتبعه هدير الرّعدِ.
13
وبينما أنا كذلك انتابني الذعر لمنظر فتاة تجلسُ في
زاوية الشّارعِ جلسةُ القرفصاءِ، خبّأت نفسها بين
ذراعيها منكسة رأسها وخصلات شعرها الفاحمة
تغطي وجهها الأسمر ومُقلتيْها تُعلنُ انهمار الدموع
بعد برهةٍ.
15
صوتُ تلك العاصفة يُخيفها … يبكيها … وذلك
الشّتاء يعذّبها … يقرصها… يبدو لها صوت
الرّعدِ كصوتِ الذّئابِ في غابةٍ موحشةٍ ، فغياب
والديها يقلقها .. يهزُّ كيانها.. يُضعفها .. رحلوا عنها
وتركوها في هذا الشّتاءِ لوحدها ، خائفةً من
قطراتِ المطرِ بعدَ أن كانت تداعبها بأناملها قطرةً
قطرةً.
17
… وأخيرًا
سقطت دمعةٌ خجلةٌ من بين جفنيْها .. دمعة رقيقة
ساخنة انهمرَت من حرقةِ جوفها ، متمنّية لنفسها
الموت لتنام قريرة العينِ بين أحضان والديها ،
فوالدها مات ولم يورثها غير اسمه ، وماتت أمّها
ولم تترك لها سوى دموع الأسى وذلّ اليتيم.
19
كانت عارية القدمين ، رثّة الثّوب لا تحصي العين
تلك الرّقع المنتشرة فيه ، فهي فتاة عليلة قد أخذ
السّقام من حجمها ، فجسدها الهزيل وملامحها
الطّفوليّة أخبرتني أنها لم تتجاوز الثامنة من عمرها،
تحملُ بيديها الصغيرتينِ ورودًا ، وعلى الفورِ
تخيّلتُ أمامي بطلة قصة ” بائعة الكبريت.”
21
تلك القصة التي تركَت أثرًا في وجدان أطفال
العالم ، فهي تروي معاناة فتاة يتيمة كانت تجوبُ
إحدى شوارع المدن الكبرى لتبيع عُلب الكبريت
لكنها ماتت بسبب ما عانته من قسوةِ البردِ والجوعِ
ومعها ماتت أحلامُ طفلة يتيمة.
23
تُرى لِما تحملُ طفلةٌ مثلها بين يديها الصغيرتين
ورودًا في هذا الوقت المتأخر من اللّيل ؟ حتمًا
ليس من شدّةِ رومانسيتها ؟ ولِمَ قد يمسح طفلٌ آخر
أحذية المارّين ؟ ولِمَ يحملُ طفلاً آخر عُلبة مناديل
والوقوف لساعات عند اشارات المرور ؟ تتعدّدُ
الأسباب لكنها تلتقي في مجملها عندَ نقطة واحدة
” الحاجة”
25
هذه الحاجة هي سببًا في تدمير طفولة الأطفال
وتدمير أحلامهم وأمانيهم ، والزّجّ بهم في هامش
الإنصياع لظروفٍ تسلِبُ منهم طفولتهم وتعبثُ
بصحتهم النفسية والجسدية.
27
حتى لا ننسى ، فهذه الحاجة كانت لتطالنا نحن
أيضًا لولا أنها اختارتهم من بين كلّ هؤلاء
الأطفال ، فلنرأف بحالهم ونمدُّ لهم يد العون
والخير دون تردّد ، فلا شيء يُطلقُ العظمة الكامنة
بداخِلِنا مثل الرّغبةِ في مساعدةِ الآخرين.
29
فعندما خَلَقَنا الله سبحانه وتعالى ، خَلَقَ معنا
الرّحمة والعطف والتّسامح ، فلنتحلّى بها لنكون
عِبادًا صالحين لأن الله في عونِ العبد ما دامَ العبد
في عونِ أخيهِ.
31
تأليف الطالبة جويل حدّاد
الثامن 4
الاعدادية ب – طرعان
32
Published: Dec 8, 2020
Latest Revision: Dec 17, 2020
Ourboox Unique Identifier: OB-958128
Copyright © 2020