ارْتَفَعَتْ نِداءاتُ الغِرْبَانِ لِتُمَزِّقَ سُكُونَ الغَابَةِ بِأصْوَاتِهَا القَبِيحَةِ وَهِي تُعْلِنُ أَمْرَ مَلِكَ الغَابَةِ بِأَنْ يَجْتَمعَ زُعَماءُ كُلِّ فَصائِلِ الحَيوانَاتِ عِنْدَ مَجْلِسِهِ عَلَى الفَوْرِ، وَالوَيْلُ لِمَنْ لا يَسْتَجِيبُ لأَمْرِ المَلِكِ العَظِيم.
أسْرَعَتِ الحَيوانَات يَسبْقُهَا الرُّعْبُ إلى مَجْلِسِ مَلِكِ الغَابَةِ. كَانَ الجَمِيعُ يَتَهَامَسُونَ فِي خَوْفٍ مِنْ عُيُونِ المَلِكِ وَأَعْوَانِهِ عَنْ ظُلْمِهِ وطُغْيَانِهِ، والأَوَامرِ العَجيِبَةِ التَّي لا يَكُفُّ عَنْ إصْدَارِها كُلَّ يَوْمِ، ويَتَهَامَسُونَ عَنْ أعوَانِهِ مِنَ الذِّئَابِ الخَبيثَةِ التَّي تُحيطُ بِهِ، وَتَدْفَعُهُ دَوْمًا إلى الفَسادِ في سَبِيلِ مَصَالِحِهَا.
لَقَدْ كَانَ مَلِكُ الْغابَةِ في غايَةِ القُوَّةِ وَيَسْتطِيعُ بِأَنْيابِهِ وَمَخَالبِهِ القَوِيَّةِ أنْ يَفْتَرِسَ أي حَيوانٍ يَرفُضُ لهُ طلبًا ولوْ كانَ صَعْبًا، أو يَعْصِي لهُ أمرًا ولو كانَ ظُلمًا، وكانت جَماعَةُ الغِرْبانِ تَنْقُلُ لَهُ ما يَدُورُ في أنحاءِ الغابَةِ.
كانت الحيواناتُ تَشْعُرُ كأنَّها في سجنٍ كَبيرٍ مَعَ أن الغَابَةَ واسعةٌ جِدًا، وكانتْ تَتَمنَّى أن يَأتِيَ اليومُ الَّذي تَتَخَلَّصُ فِيهِ مِنَ الأسدِ الظَّالِمِ وَأعْوانِهِ الفَاسِدينَ.
اجْتَمَعَت الحَيَوانَاتُ، فَخَرَجَ الأسَدُ مِنْ عَرِينِهِ وقالَ بِصَوتِهِ المُخِيفِ: لَقَد اقْتَرَحَ علَيَّ وَزيري المُخْلِصُ، زَعيمُ الذِّئَابِ؛ أنْ تَقُومَ حَيَواناتُ الْغَابَةِ بِبِنَاءِ عَرْشٍ لي؛ لأكُونَ فَوْقَ الجميعِ، وَأُراقِبَ جَميعَ أنحاءِ مَمْلَكتي، ولا يَتَصَرَّف أيُّ حيوانٍ في مملكتي تَصَرُّفًا لا تَراهُ عَيْنايَ، ولا يَجْرؤُ عدُوٌّ على دُخُولِ المملْكَةِ؛ فَعَلَيْكُمْ أنْ تُنَفذوا رَغْبَتِي، وإلا فَالْعقَابُ سَيَنَالُ الجميعَ بِلا رَحمةٍ.
عادَت الحيواناتً إلى أوكَارِهَا، وأعْشاشِها، وَجُحُورِها، وطَلَبَ زَعيمُ كُلِّ جماعةِ مِنْ أفرادِ جماعتَهِ أن يُفَكروا في فكرةٍ تُعْجِبُ المَلِكَ، وَتُحَقِّقُ رَغْبَتَهُ؛ حَتَّى لا يَتَعَرَّضَ للقَتْلِ.
جَلَسَ الأسَدُ في عَرِينِهِ تُحيطُ بِهِ جَماعَةُ الذِّئاب. ووقفَ زعيم الذئابِ والْوَزيرُ الأولُ لِمَلكِ الغَابةِ. ثُمَّ قالَ في فخرٍ: لو نَجَحَت الحيوانات في تنفيذِ الفكرةِ فَسَوْفَ تُصبْحُ يا ملك الغابةِ أعْظَمَ من كل ملوكِ الغابَاتِ الأُخْرَى.
ثُمَّ التَفَتَ الذئْبُ إلى بَقِيَّةِ الذِئابِ وقالَ في خُبْثٍ: وَلَو فَشلَتْ الحيواناتُ في تَنفِيذ الفكرةِ، فَسَوْفَ يَزيدُ نَصيبُنَا مِنَ اللَّحمِ حينَمَا يُوِقعُ المَلِكُ عِقَابَهُ بِحيواناتِ الغَابَةِ كُلهاّ!!!
وَبَعْدَ عدَّةِ أيَّامِ، تَقَدَّمَ زعيمُ الْقُرُودِ إلى الأسَدِ وقالَ: أرَىَ أنْ نَصنَعَ لكَ عَرْشًا كبيراً فوقَ أعلى شَجَرَةِ في الغابةِ، وبهذا تَكُونُ فوقَ الجمِيعِ، وَترى أَبْعَدَ من الجميعِ.
نَظَرَ الأسدُ في غَضَبٍ إلى زَعيمِ القُرُودِ وقال: إن الصُّعُودَ فَوْقَ الشَّجَرَةِ والنُّزُولَ كُلَّ يَوْمٍ سَيُرْهِقُنِي كَثيراً أيُّهَا الأحْمَقُ؛ أَتَحْسَبُنِي قِرْدًا مِثْلَكَ؟!! ثم أَمَرَ بِقَتْلِهِ في الحالِ.
طارَت رأْسُ زَعيمِ القُرُودِـ وَعَادَتِ الحيواناتُ إلى بيُوتِهَا مَذْعُورَةً. وَفي اليَوْمِ التَّالي تَوَجَّهَ زَعِيمُ الزّرافَى إلى ملِكِ الغابةِ وقال: أقترحُ أن تَصْنَعَ الحيواناتُ مِحَفَّةً كبيرةً يَجلِسُ فَوْقَهَا ملكُ الغابَةِ، وتَحْمِلُهَا أَرْبَعُ زَرَافَى؛ وتتَجَوَّلُ بِهِ في أنحاءِ الغابةِ، فَيكُونُ أعلَى من أي حَيَوانٍ آخَرَ في الغابةِ كُلهَا.
فَكَر الأسدُ لَحْظَةٌ، فقَفَزَ الوَزِيرُ إلى جَوَارِهِ مُسْرِعًا وقال: ولكنَّ سَيِّدي المَلكِ لَنْ يرى أطْرَافَ الغابةِ البعيدةِ، وَقَد يَقَعُ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِ الزَّرَافَى فَيُصِيبُهُ مَكْرُوهٌ!!!
لمْ تُعْجِب الفِكْرَةُ مَلِكَ الغَابَةِ، فَطارَتْ رأسُ زَعِيمِ الزَّرافى عَلى الفَوْرِ، وصارَ طَعَامًا للذْئبِ وإخْوانِهِ.
مرتْ على الغابةِ أَيَّامٌ حَزِينَةٌ، طارَتْ فيها رُؤوسٌ كَثيرةٌ، وعاشَت الحيواناتُ في رُعْبٍ، فَبَدأت كثيرُ من الحيواناتِ في هِجْرَةِ الغَابَةِ سِرًا في ظَلامِ اللَّيْلِ.
وفي إحْدى اللَّيالي اجْتَمَعَتْ بَعْضُ الحيواناتِ لتَتَشاوَرَ في أمْرِ مَلكِ الغابةِ المُتَجَبِّرِ الظَّالِمِ، فقال النَّمِرُ: أرى أنْ نَتَخَلَّصَ مِنْهُ، ونأتي بِزَعيمٍ جديدٍ عادلٍ.
فقال الحمارُ الوَحشيُّ: ومنْ يَجرُؤ على مَصَارَعَةِ الأسَدِ وأعوانِهِ الذئابِ؟!
قَفَزَ غَزالٌ عَجوزٌ وقال: أرى أنْ نَهْجُرَ جَميعًا هذِهِ الغَابةَ، ونَبْحَثَ عن غابةٍ أُخْرى بِها زَعيمٌ عادلٌ، يَحْكُمُ بَيْنَنا بالرحمةِ والعدلِ، لَكِنَّ الجَميعَ انْتَفَضُوا في صَوْتِ واحدٍ وقالوا: كَيْفَ نَتْرُكُ وَطنَنَا الَّذي وُلِدْنا فيه، ونَشأنَا على أرْضِهِ وَتَحْتَ سَمائِهِ؟!
وحينَئذٍ تَسَلَّلَ ثَعْلَبٌ صَغيرٌ حَتَّى وَقَفَ بيْنَ الجميعِ، ثُمَّ قالَ: إن عندي فِكرَةً سَوْفَ تُعْجِبُ المَلِكَ بِكُلِّ تَأكِيدٍ، وَتُريحُنَا مِنْ ظُلْمِهِ إلى الأبَدِ!! نَظَرَ الجميعُ إلى الثعلبِ الصغير في دهشةٍ.
فأسرع الثعلبُ وقال:
أقترحُ أنْ نَصنَعَ عَرشًا كبيرًا فَخْمًا مِنْ فُروعِ الأشجارِ، وَنَكْسُوَهُ بالفراءِ النَّاعِمِ، ونَرْبِطَ جَوانِبَ العَرْشِ بِمجموعةٍ مِنَ الحبالِ القَوِيَّةِ، ثُمَ تَقومَ مجموعَةٌ من النسور بإمْساك هذه الحبالِ بأرجُلِها، وترتفع بالعرشِ الذي يَجْلِسُ عليهِ المَلكُ عَاليًا في السَّماءِ، وتَدَورُ بِهِ في الغابةِ كما يَتَمنَّى المَلِكُ.
فقال زعيمُ النُّسُورِ: ولكننا إذا فَعَلنا ذلك فَسَتَتَحَقَّقُ رَغْبةُ ملكِ الغابةِ فَيرى كل شيء، ويزدادُ ظُلمُهُ لحيواناتِ الغابةِ!!
وقفَ زعيمُ البومِ وقال: لقد فَهِمْتُ ما يقْصدُهُ الثعلبُ، وَتوجد في البحرِ على مَرْمى البصرِ جَزيرةٌ صَخريةٌ صغيرةٌ لا يعيشُ فيها أي حيوانِ أو نَباتِ تَحتاجُ لزعيمٍ قَويِ كزعيمنَا!!
أدركَ الجميعُ ما كانَ يَقْصِدُهُ الثعلبُ، وما اقترحهُ زَعيمُ البُومِ، فَعَلَتْ أصْواتُهُم بالضحكِ.
وفي الصبَّاحِ، ذهبَتْ حيواناتُ الغابةِ إلى الملكِ، وأخبرتْهُ بالفكْرةِ. فَنالتْ إعْجابَهُ، وأراد الوزيرُ أن يَعْتَرِضَ، ولكنَّ كان خائِفًا، ثم أمرَ الأسدُ الجميعَ أن يَصْنعوا العرشَ المهيبَ لِزعيمِ الغابةِ الأوحد.
تسابقتِ الحيواناتُ، وَعَملتْ في همةٍ ونشاطِ، حتَّى جعلُوا العَرش كأجملِ ما يَكُونُ.
جَلَسَ ملكُ الغابةِ على العرشِ، وقد ملأهُ الغرورُ والكِبْرُ وقال: هذا هو العَرشُ الذي يَليقُ بِزعيمٍ مِثلي، يَجبُ أن يكونَ فوقَ كل زعيمِ آخرَ. وأمَرَ النُّسّورَ بِحَمْلِ العَرْشِ.
أَمْسكَتِ النُّسُورُ الحبالَ بِمَخَالبِها القَويَّةِ، وبدأتْ في الصُّعُودِ فَوْقَ الغابةِ.
نَظَرَ مَلكُ الغابةِ إلى الحيواناتِ من تَحْتِهِ في سَعادةٍ وغُرُورٍ، وقال: هذهِ هي مملكتي الكبيرةُ وجميعُ من فيها خَدمي ورَعايايَ.
ارْتَفَعَتِ النُّسُورُ أكثرَ، فَنَظَرَ إليهِمُ الملكُ، وقال في غضبٍ: يَكفيني هذا الارتفاعُ، أنْزِلُوني الآن إلى مَمْلَكتِي. لكنَّ النُّسُور لَمْ تَستمِعْ إلى كلامِ الملِكِ، وَظَلَّتْ تَرْتَفعُ أكثرَ وأكثَرَ!!
صَرَخَ الملكُ في النُّسُورِ غاضِبًا، وقالَ: أنْزِلونِي وإلا قَتَلْتُكُم جَميعًا!! فقالَ لهُ زَعيمُ النُّسورِ: لو ماتَ واحدٌ مِنَّا فَسَوْفَ تَسْقُطُ وتَمُوتُ قَبْلَهُ.
دَبَّ الرُّعْبُ في قَلْبِ الأسَدِ، وَتساقَطَتْ قَطراتٌ من الدموعِ مِن عَيْنَيْهِ التَّي لَمْ تَعْرِفِ الدُّموعَ من قبلُ، ثمَّ قال للنُّسُورِ: أعيدُوني إلى مَمْلكَتِي، وَلَن أَمَسَّ أحّدّكُمْ بأذى، سَأجْعَلكُمْ وُزَرائِي .. لَن أظْلمَ أحدًا في المَمْلكَةِ بعد الآن!! فَرَدَّ عَلَيه زَعيمُ النُّسورِ: لو أعدناكَ إلى المَملكِةِ فَسَوفَ يَهْلكُ الجميعُ!!
ظَلَّتِ النُّسورُ تَطيرُ حتى دَخَلَتْ إلى مسافةٍ بعيدةٍ في المحيطِ الكَبيرِ، واقْتَربَتْ من الجزيرةِ الصَّخْريَّةِ، فبدأت في النُّزُولِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا، وأنْزَلت الأسدَ، فَلَمْ يَرَ حَوْلَه غير الُّصخُورِ والرّمالِ، فَظَلَّ يَصرُخُ ويقولُ: أينَ تَتْرُكُونَني؟؟!! كيفَ أعيشُ بلا خَدَمٍ ولا أعوانٍ؟! الْتَفَتَ إليهِ أحدُ النُّسورِ وهوَ يُحلِّقُ بعيدًا وقال: ليس لك الآن من تَحْكُمُهُ غيرَ الماءِ، والرّيحِ، والصُّخُورِ، فاحْكُمْهَا إن اسْتَطَعتَ!!
عادَت النُّسورُ إلى الغابةِ من غير الملكِ المَهِيبِ، فلمَّا رأتِ الذئابُ اختفاءَ الملكِ؛ اخْتَفَتْ هي الأُخرى في ظلامِ الغابةِ، ولَكِنَّ السَّلامَ عمَّ أرْجاء الغابةِ، وعاشَ الجميعُ في أمنٍ وسعادةٍ.
Published: Apr 23, 2020
Latest Revision: Apr 23, 2020
Ourboox Unique Identifier: OB-789498
Copyright © 2020