“مــــــــــــــــــــــــــــــوت الـــــــشـــــــــعـــر الأســــــــــــــــود”
قصـــة بقلم زكريا تامر
كانت شمس الظهيرة تسطع بيضاء على حارة السعدي بينما شيخ المسجد يقول للمصلين أن الله هو الذي خلق الرجال والنساء والاطفال والطيور والقطط والأسماك والغيوم، وهو الذي خلق أيضا عباده الفقراء من تراب، فيهز الرجال رؤوسهم موافقين، فوجوههم تشبه ترابا لم تهطل فوقه قطرة مطر، وبيوتهم من تراب، ويوم يموتون يدفنون في التراب.
ولما انتهت صلاة الظهر، غادر الرجال المسجد يرين عليهم خشوع هادئ وكآبة عذبة، واتجه معظمهم الى مقهى حارة السعدي، وهنا تكلموا عما حدث قبل أيام، فلقد قصد منذر السالم مخفر الشرطة، وأعلن مرفوع الرأس أنه ذبح أخته لأن العار في حارة السعدي لا يمحوه سوى الدم.
وهكذا فقد ماتت فطمة الفاكهة التي تحلم بها كل الأشجار، ففطمة امرأة جميلة، ولكن أجمل ما فيها شعرها الأسود، الماء المظلم الذي لا تتألق فيه نجمة، والخيمة التي تمنح الأمان للمطارد الخائف.
وعندما كانت فطمة صغيرة السن، كان جدها يهوى تمشيط شعرها، وينثر خصلاته الفاحمة بزهو ونشوة، ويغمغم بإعجاب: “كنز … كنز”.
ويوم دخلت فطمة بخطأ مرتبكة الى غرفة الضيوف وهي تحمل فناجين القهوة، لفت شعرها أنظار النسوة الخاطبات، ونالت اعجابهن توا، فتعالت الزغاريد بعد أسابيع وصارت فطمة زوجة لمصطفى الرجل الذي يملك وجها لا يبتسم.
ولقد أحب مصطفى فطمة وشعرها، ولكنه كان يرى في منامه حلما واحدا يركض فيه تحت مطر غزير دون أن تبلله قطرة ماء.
وكان مصطفى يقول لفطمة: “أنا رجل وانت امرأة. والمرأة يجب أن تطيع الرجل. المرأة خلقت لتكون خادمة للرجل”.
فتقول له فطمة: “اني أطيعك وأفعل كل ما تريد”.
فيصفعها قائلا بنزق: “عندما أتكلم يجب أن تخرسي”.
فتبكي فطمة، ولكنها كانت كعصفور صغير مرح طائش، فتكف عن البكاء بعد هنيهات، ثم تضحك وهي تمسح دموعها، فيغمض عينيه، ويتخيل فطمة تقول له بذُل: “أحبك وأموت لو هجرتني”.
ولكن فطمة لم تقل له يوما ما يتوق اليه.
وفي يوم من الايام دخل مصطفى متجهم الوجه الى مقهى حارة السعدي وقال لأخيها منذر السالم: “قبل أن تقعد كعنتر بين الرجال، اذهب وخذ أختك من بيتي”.
فأحنى منذر السالم رأسه خجلا من الرجال المحيطين به، وعض بقسوة على شفته ثم نهض فجأة، وانطلق يركض في حارة السعدي.
ولما أبصرت فطمة أخاها منقضا عليها شاهرا سكينة، ولولت، وسارعت الى الهرب من البيت، وركضت في أزقة حارة السعدي حاسرة الرأس، مبعثرة الشعر، وصرخت مستغيثة.
غير أن السكين لحقت بها وبلغت عنقها بينما كان الرجال والنساء والاطفال يقفون متجمدين شاحبي الوجوه.
وهكذا مات الشعر الاسود، ولكن فطمة ما تزال تركض في حارة السعدي وتطرق أبواب بيوتها مستنجدة فلا يفتح باب من الابواب، وتتلطخ السكين بالدم
قراءة في قصة: موت الشعر الأسود
ان اول ما يستثيرنا عند قراءة قصة “موت الشعر الأسود” هو عنوانها فنتساءل مثلا لماذا اختار الكاتب هذا
العنوان؟ ما هو نوع العنوان؟ لماذا اختار الكاتب ان يرمز الى بطلة القصة بشعرها الاسود في العنوان؟ وما هي خصائص نص العنوان؟ وهل في هذا النص من دلالات؟
ان اختيار هذا العنوان الذي يثير التساؤلات أنفة الذكر يثير فضول القارئ (المتلقي) فيستمر في القراءة مكتشفا ماهية هذا العنوان وعمقه وارتباطه بشخصية “فطمه” بطلة القصة ثم بنهايتها “وهكذا مات الشعر الأسود ولكن فطمه ما تزال تركض” ولماذا هذا الفصل بين الشعر الاسود وبين “فطمه”
بنظرة عادية لقارئ عادي هذا العنوان تلخيصي فيتعرف القارئ ان الشعر الاسود قد مات وان “فطمة” ماتت مذبوحة بسكين اخيها “منذر السالم”. وفي فصل الشعر عن صاحبته دلاله واضحة لموت الجسد لكن القضية والرمز في شخصية “فطمة” باقيان الى الأبد, وهذا باعتقادي اختيار موفق في طرح عنوان كهذا!
نصّ العنوان هو جملة اسمية (مبتدأ وخبر) المبتدأ محذوف جوازاً ليدع الكاتب تقديره للمتلقي في حين ابقى على خبر المبتدأ في العنوان والخبر هو الاهم لأنه بلّغنا الحكاية.
لماذا اختار الكاتب أن يكون الشعر اسود بدل أن يكون بلون آخر أشقر مثلا وهل في اختيار اللون الأسود من دلالات ؟ الحزن مثلاً, الحداد, الظلام أو كل ما هو غير واضح المعالم ومجهول أو رمز للجمال ؟
إن الوقوف عند الدّلالة الحسيّة فقط للون لا يعطينا دلالة واضحة, فيجب أن نربط بين هذا اللون “الأسود” للشّعر وبين قول الجدّ حين كان يسرّح شعر حفيدته الأسود: “كنز , كنز” وتكرار كلمة كنز بصورة التوكيد اللفظي تأكيد واضح بأننا أمام كنز فنتساءل أي الكنوز لونها اسود؟ وكيف يتجسّد هذا الكنز في “الشعر الأسود”.
وعندما نقرأ القصّة التي بدأت بالفعل الماضي الناقص “كانت شمس الظهيرة…” نعرف أن الكاتب يتلاعب بالتتابع الزمني للأحداث من حيث التقديم والتأخير وذلك كي يحقّق نوعا من التأثير الفنّي على القارئ فعمد إلى إلغاء الوحدة الزمنيّة المتسلسلة, فيعتمد الكاتب على أسلوب الاسترجاع الفنيّ (فلاش باك) على الصعيد السردي ,فيبدأ من نهاية القصّة ثمّ يأخذ بالتراجع ليكشف عن حيثيّاتها. فنعرف أن حكاية مقتل “فطمة” على يد أخيها حدثت قبل أيام, وليس في زمن السّرد. فاختياره للفعل الماضي ككلمة افتتاح القصّة إشارة إلى أن القصّة (قصة فطمه) حدثت في الزمن الماضي واختيار الفعل الناقص بالذات لا ينمّ عن حدث حدث بل عن صيرورة دائمة لحالة مستمرّة كما تعكسها حكاية مقتل فطمة. واختيار وقت الظهيرة وخروج الرجال من المسجد إلى المقهى يثير التساؤل هل هؤلاء الرجال لا يعملون؟ … فوقت الظهر منتصف اليوم هو وقت عمل فلماذا يتجه الرجال إلى المقهى بمعظمهم؟ باعتقادي اختيار وقت الظهر واتجاه الرجال إلى المقهى يدلّ على حالة البطالة والفراغ التي يعيشها أهل حارة السّعدي فهم بين المسجد والمقهى. ولكن لماذا بدأت القصّة بقول شيخ المسجد: “إن الله هو الذي خلق الرجال والنساء والطيور والقطط والأسماك والغيوم وهو الذي خلق أيضا عبادة الفقراء من تراب…”
ما هو دور الذّين؟ وهل يتخذ الكاتب موقفا منه؟ ففي الترتيب الذي ورد على لسان الشيخ نرى ذكر الرجال أولا ثم النساء: فالرجال قوّامون على النساء ,وهذا يرتبط بمصطفى الذي كان يقول لفطمة “أنا رجل وأنت امرأة, والمرأة يجب أن تطيع الرجل. المرأة خلقت لتكون خادمة للرجل”. أليس هذا موقفا ناقداً لمكانة المرأة ؟ ولماذا اختار الكاتب أن يضم شيخ المسجد في كلامه الأطفال؟ أم هو لسان حال الكاتب الذي أراد أن يكون الأطفال رمزاً للمستقبل الواعد الذي يحلم به؟ ثم الطيور التي تحلق في السماء بحرية تامة, والقطط التي تتمتع بالحرية في حارة السعدي على عكس البشر, والأسماك التي تجوب البحار الواسعة والغيوم التي تحلق بعيداً في فضاء السماء الواسعة بلا حدود ولا موانع, أليس في اختيار هذه الكلمات والمسمّيات وترتيبها على هذا النحو طموح وشوق إلى الحرية والانعتاق على عكس ما هو قائم عند البشر في حارة السعدي.
وما سرّ الرجال الذين يغادرون المسجد بعد ان سمعوا كلمات شيخهم في المسجد فهم: “يرين عليهم خشوع هادئ, وكآبه عذبة” ,فهذا يدل على استسلامهم للقدر وردّ كلّ ما يحدث في حياتهم الى الله سبحانه وتعالى, لذلك كانت كآبتهم عذبة لأنهم لا يستطيعون تغيير الواقع وخشوعهم هادئ دلالة على الاستسلام لقضاء الله. وبحذر شديد انوّه ان الكاتب يريد من رجال الدّين عامّة ان يغيّروا صورة الخطاب إلى الجماهير العريضة في مفهوم القضاء والقدر والتوكل ,والعمل حثيثا على تغيير واقع الكآبه حتى لو كانت عذبه.
وعلى صعيد الشخصيات فقد اختار الكاتب الشخصية الشعبية فهو يستمد هذه الشخصيات من البيئة الشعبية الشامية ليعكس من خلالها واقع الحياة الشعبية البسيطة المحيطة به, لتأتي الشخصيات في قصة الشعر الأسود “متخلفة” “رافضة” للتفتح والمشاعر الإنسانية, وتمارس أحيانا كثيرة دور الشّر والقتل. وهنا نقف عند شخصيتين هامتيّن في القصة:
شخصية مصطفى الزوج الذي يتجلى شكلة المنغلق: “فهو يملك وجهاً لا يبتسم” وهو يؤمن إيمانا راسخا بأن :”المرأة يجب أن تطيع الرجل, المرأة خلقت لتكون خادمة للرجل”. فهي كأي شيء يمتلكه ويسخرّه لأهوائه ورغباته وخدمته فقط, حتى إن المرأة محرومة من حق الكلام وهو ابسط الحدود! ” عندما أتكلم يجب أن تخرسي”. وفي نفس الوقت يطلب من زوجته ان تكون محبة تذوب في أهدابه فهو “يتخيل فطمه تقول له بذلّ: ” احبك وأموت لو هجرتني”. فهو كرجل شرقيّ نسي أنّ الحب لا يعطي إلا بالحب. فأين هو من ذلك؟ّ!
فهو في موضع أخر في القصة كما يقول الراوي لقد أحب فطمة وشعرها وهذا يجعلنا نعتقد على ضوء أفعاله معها وموقفه منها كزوجه, يجعلنا نعتقد أن هذا الحب هو على صعيد الرّغبه الجنسيّة فقط لا يتعداه. وهذا ما يفسر طلبه من أخيها أن يأخذها من بيته, فهي نظرة تلبّي رغباته ولكنها لا تحبه بالفعل, وفي نظر مصطفى هذا إثم كبير ارتكبته وعار أتته فتستحق عليه العقاب, ثم إنّ هذا يرتبط ارتباطا وثيقاً بالحلم الذي كان مصطفى يحلمة فهو يركض فيه تحت مطر غزير دون أن تبلله قطرة ماء: فالغزارة في المطر تدل على الخير والوفرة ,فهذه فطمة تلبي جميع رغباته وتطيعه بكلّ شيء لكنه لم يصل إلى قلب فطمة ولم تغرق عليه من مشاعر حبها التي تتعدّى الجسد لذلك لن تبلله قطرة ماء.
والشخصية الثانية التي أريد أن أقف عندها شخصية “منذر السالم” أخ فطمة الذي لم يتوان في قتل أخته بمجرد أن سمع من مصطفى: “قبل أن تقعد كعنتر بين الرجال, اذهب وخذ أختك من بيتي”. فهو حتى لم يسأل لماذا؟ أو ماذا فعلت؟ فاستلّ سكينه ومضى ليمحوا “العار” بالدم ويسلّم نفسه إلى الشرطة. فمنذر السالم هنا هو نموذج للرجل الذي يؤمن بأن جريمة العار التي قد ترتكبها المرأة في المجتمعات الشرقية عقابها القتل والقتل فقط. هذا السلوك الذي قام به منذر السّالم يقودنا إلى النص القرآني “وإذا الموْؤُدة سئلت بأي ذنب قتلت” وكأن لسان حال الكاتب يقول: إن كان الزمان قد تغير إلا أن الجاهلية ما زالت قائمة, فيتساءل سائل هنا بأي ذنب قتلت “فطمة” وما هو العار الذي ارتكبته؟ وهل تستحق عليه مثل هذا العقاب؟
في قراءة دقيقة واعية للعلاقة بين مصطفى الزوج وبين “فطمة” المرأة الجميلة ذات الشعر الأسود نستنتج إن العار هو فعل الرجل أولا لتكون المرأة هي الضحية التي يقع عليها العقاب فيترك الجاني لتعاقب الضحية. وهذا ما حدث بالفعل مع “فطمة”.
إن كنا قد أولينا اهتماماً بشخصيات الرجال في القصة:
مصطفى (الزوج) ومنذر السالم (الأخ) فشخصية “فطمة” الفتاه ثم المرأة الجميلة ذات الشعر الأسود الجميل: “إذ أجمل ما فيها شعرها الأسود” فقد أسهب الكاتب في وصف جمالها فاختار لغة شعريّة في وصفها: “فطمة الفاكهة التي تحلم بها كلّ الأشجار, ففطمة امرأة جميلة, ولكن أجمل ما فيها شعرها الأسود, الماء المظلم الذي لا تتألق فيه نجمة, والخيمة التي تمنح الأمان للمطارد الخائف”…” وكان جدها يهوى تمشيط شعرها, وينثر خصلاته الفاحمة بزهوّ ونشوة, ويغمغم بإعجاب: كنز … كنز. باعتقادي اختار الكاتب ان ينظم قصيدة في وصف “فطمة” إلى جانب اللغة العالية, نرى التعبير المكثف الإيحائي الذي نراه في الشِّعر ليصبح الكاتب شاعر القصة إلى جانب كونه كاتباً للقصة. وهذا ما يميز أسلوب زكريا تامر بوجه عام في معظم مجموعاته القصصية. لقد اغرق الكاتب في وصف جمال فطمة, وهنا انوه إلى التناصّ مع مسرحية مجنون ليلى بقول احمد شوقي: “برأها من العيوب فعقر” . على مستوى الأحداث فشخصية “فطمة” هي شخصيّة نمطيّة جداً للمرأة المسحوقة في المجتمعات الشرقية والمجتمع العربي بشكل خاص, وهي ضحية للرجل كما رأينا من الأحداث ليصبح جمالها ذنبا وجريرة تستحق عليها العقاب وهذا ما حدث بالفعل. في اعتقادي, فهم شخصيّة على هذا النحو: لا يوفيها حقها بل فيه نوع من السذاجة في فهم النص, فلو نظرنا إلى التعابير الإيحائية التي استعملها الكاتب في وصف فطمة فماذا نجد؟ ” فطمة فاكهة تحلم بها كل الأشجار “
ما سر هذا التشبيه؟ كيف تكون فطمة فاكهة ومن هي الأشجار التي تحلم بها؟
وفطمة أيضا “الماء المظلم الذي لا تتألق فيه نجمة فنتساءل متى يكون الماء مظلماً؟ ولماذا لا تتألق النجمة على صفحاته؟
ولماذا تكون فطمة أيضا خيمةَ تمنح الأمان للمطارد الخائف؟ ومن هو المطارد الخائف؟ كل هذا باعتقادي يجعل الفراغات في النص واضحة وكأنها تقول: إن فطمة ليست مجرّد امرأة جميلة مسحوقة عاشت في حارة السّعدي ثمّ قتلت فهي باعتقادي تمثل جميع الناس المظلومين والمسحوقين والمضطهدين على امتداد الوطن العربي ,حيث جرّت مكانة بعض البلدان وجمالها وثرواتها الويلات عليها من احتلال واضطهاد.
ورب سائل يسأل لماذا وقف أهل الحارة يتفرّجون على ما يحدث دون تدخّل؟ ولماذا لم يفعلوا شيئاً لمنع الجريمة؟ هل هم يؤيدون “منذر السالم” في قصاصة من أخته أم هم بالفعل مجرّد رموز لما هو اكبر؟
وفي الختام لماذا اختار الكاتب هذه النهاية؟ ولماذا جعل فطمة ما تزال تركض في حارة السعدي تطرق الأبواب وتستنجد فلا يفتح باب من الأبواب؟
لماذا اختار هذه النهاية في الفصل بين الشعر الأسود وفطمة ” مات الشعر الأسود… لكن فطمة ما تزال تركض في الحارة هل في هذا إشارة إلى الجمال يجر الويلات على صاحبته ا وان الكنوز قد تجر الويلات على مالكيها ولكم إن تفكروا … ولماذا يقف الناس حياديّين متفرّجين من قضايا كثيرة تحدث على امتداد الوطن العربي فإلى متى نعاقب الضحيّة ونغفل عن الجاني
فيديو تفاعلي
نموذج محوسب
هنا
تمارين محوسبة
وظيفة بيتية
Published: Dec 13, 2019
Latest Revision: Dec 13, 2019
Ourboox Unique Identifier: OB-698867
Copyright © 2019