دور الإعلام وتأثيراته في مسار الانقلاب الفاشل في تركيا

by John Allen

Artwork: د. إسلام حلايقة

This free e-book was created with
Ourboox.com

Create your own amazing e-book!
It's simple and free.

Start now

دور الإعلام وتأثيراته في مسار الانقلاب الفاشل في تركيا

by

Artwork: د. إسلام حلايقة

  • Joined Mar 2020
  • Published Books 3

تعالج الورقة دور الإعلام التركي في مسار المحاولة الانقلابية الفاشلة على نظام الحكم في تركيا، في 15 يوليو/تموز 2016، وتناقش استراتيجيات أطراف الصراع في إدارة وسائل الإعلام للتأثير في مجريات الأحداث وتطوراتها، وفي الرؤى والمواقف والاتجاهات، بل وفي تغيير معادلات الواقع السياسي وتشكيل وبناء واقع جديد.

مقدمة 

أبرزت المحاولة الانقلابية الفاشلة، التي قادتها شبكة العسكريين في الجيش التركي ضد نظام الحكم في تركيا، في 15يوليو/تموز 2016، دورَ وأهميةَ الإعلام بوسائله المختلفة في التأثير في مجريات الأحداث وتطوراتها، وفي الرؤى والمواقف والاتجاهات، بل وفي تغيير معادلات الواقع السياسي وتشكيل وبناء واقع جديد، وهو الدور الذي يتعاظم خلال الأزمات بين أطراف وقوى الصراع المختلفة. وفي الحالة التركية كان الإعلام حاضرًا بقوة في مسار المحاولة الانقلابية؛ إذ عَكَسَ وعيًا وإدراكًا من قِبَل هذه الأطراف بأهميته في تغيير موازين القوى ومعادلات الصراع. وهنا، تبحث الورقة فرضية تأثير الإعلام ودوره في تعديل موازين الصراع خلال لحظة الانقلاب وما بعدها، وتناقش استراتيجيات القوى المتصارعة (شبكة العسكريين التي قامت بالمحاولة الانقلابية من جهة، والحكومة والشعب من جهة أخرى) في إدارة واستثمار هذا العنصر لإيصال رسائلهما وخدمة أهدافهما.

وترصد الورقة أيضًا أساليب تغطية وسائل الإعلام في تركيا لمسار الانقلاب وتفاعلها مع مجرياته، وتشرح طبيعة الدور الذي لعبه الإعلام الجديد أساسًا بتطبيقاته المختلفة في التخطيط للانقلاب من قِبل شبكة العسكريين، ثم دوره خلال لحظة الانقلاب ومسارعة مسؤولي الحكومة التركية إلى وسائط إعلامية بديلة عن الإعلام التقليدي الذي أحكمت شبكة العسكريين قبضتها على بعض وسائله وحالت دون وصول الحكومة إليه، كما ترسم الورقة خريطة لأبرز وسائل الإعلام في تركيا واتجاهاتها السياسية.

وتستمدُّ الورقة أهميتها من التأثير المتعاظم لوسائل الإعلام في التحوُّلات السياسية الجارية التي تشهدها تركيا كما ظهر في المحاولة الانقلابية الفاشلة، وقد لاحظنا بروز هذا التأثير أيضًا في التحوُّلات السياسية التي شهدتها المنطقة العربية مع حركة التغيير التي انطلقت نهاية العام 2010 وأوائل العام 2011، والدور الذي لعبه الإعلام الجديد في مساراتها. كما أن الأساليب التي اتبعتها وسائل الإعلام في تركيا باتجاهاتها المختلفة خلال تغطياتها للحظة ما بعد فشل الانقلاب تُشَكِّل عاملًا آخر يستدعي رصد مرتكزاتها ومحدِّدات خطابها. يضاف إلى ذلك أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة التركية بحق بعض المؤسسات الإعلامية -التابعة لجماعة غولن (جماعة الخدمة أو الكيان الموازي كما تُسَمِّيها الحكومة التركية) التي تتهمها بتدبير الانقلاب- تعكس تَوَجُّسَ الحكومة من دور تلك المؤسسات في الترويج للجماعة.

خريطة المشهد الإعلامي التركي  

توصف العلاقة بين الحكومة التركية ووسائل الإعلام بأنها علاقة تعايش، يتخلَّلها الكثير من النقد المتبادل؛ إذ إن أغلب وسائل الإعلام في تركيا غير مُقرَّبة من الحكومة بل من المعارضة أو شركات خاصة؛ حيث وفَّر منسوب الحرية والحالة الديمقراطية التي تعيشها تركيا منذ عام 2002 مناخًا ملائمًا لانتشار وسائل الإعلام وازدهار حرية الصحافة.

وظلت حالة التعايش بين السلطة والإعلام مستمرة؛ إذ لم يُتَّخذ أي قرار بإغلاق أية مؤسسة إعلامية أو سحب التراخيص منها لغاية أواخر عام 2015، حين قرَّرت إدارة القمر الصناعي التركي تركسات ( Türksat ) إلغاء اشتراك 13 قناة تليفزيونية وإذاعية تعود لمجموعة “درب التبانة” ( SamanYolu ) في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 (1) . كما صدر بعد ذلك قرار قضائي تركي يقضي بوضع صحيفة زمان الموالية لجماعة فتح الله غولن تحت الوصاية القضائية لارتباطها بما تُسَمِّيه الحكومة التركية “الكيان الموازي” المصنَّف في قوائم الإرهاب (2) . بينما كانت قنوات المعارضة القوية، مثل CNN Türk التابعة لمجموعة دوغان الإعلامية، تشنُّ هجمات إعلامية ضد أردوغان والحكومة، وتنتقدهما باستمرار. فمنذ وصول حزب العدالة والتنمية للحكم كان أغلب الإعلام معارضًا له بسبب خلفيته الإسلامية، لكن بدأ الحزب بإنشاء قنوات خاصة؛ فخلق حالة من التوازن مع الإعلام الآخر. ويستطيع أي طرف في تركيا أن ينتقد الحكومة، ويناقش أيًّا من القضايا باستثناء تلك التي ينص عليها الدستور التركي، مثل الإساءة أو النقد السلبي لمصطفى كمال أتاتورك، أو أن تقوم وسيلة إعلامية بالدفاع عن حزب العمال الكردستاني المعروف باسم “بي كا كا” (3) الذي تعتبره الحكومة منظَّمة إرهابية.

وتعمل في تركيا المئات من وسائل الإعلام (4) ، بعضها مُقَرَّب من الحكومة وبعضها معارض وآخر محايد، ويُبيِّن الجدول رقم 1 أهم القنوات التليفزيونية الإخبارية في تركيا وسياستها التحريرية والجهات المالكة أو التابعة لها.

الجدول رقم 2 يُوضِّح أهم وكالات الأنباء التي تحظى بانتشار واسع في تركيا

الجدول رقم 3 يُبيِّن أكثر الصحف انتشارًا وعلاقتها بالفاعلين في المشهد السياسي التركي

  استراتيجيات أطراف الصراع في إدارة الإعلام  

لحظة الانقلاب 

إلى جانب مؤسسات الدولة الحيوية المختلفة التي حاولت شبكة العسكريين السيطرة عليها (مبنى هيئة الأركان، ومقر البرلمان ورئاسة الجمهورية ومراكز القوات الخاصة والاستخبارات، ومحاولة السيطرة على مطار أتاتورك الدولي..) كانت هيئة الإذاعة والتليفزيون التركية من أوائل المؤسسات التي اقتحمها الانقلابيون وبسطوا سيطرتهم عليها؛ حيث توجَّهت آليات عسكرية إلى مقرات الشبكة في كل من أنقرة وإسطنبول، وأجبروا مذيعة TRT الإخبارية، “تيجان كاراش”، على تلاوة البيان الانقلابي الذي أعلن فيه الجيش استيلاءه على السلطة في البلاد لحماية الديمقراطية والعلمانية -كما كان شعاره في كل انقلاب- وبالتزامن تم نشر ذات البيان على الموقع الرسمي لرئاسة الأركان؛ ما أحدث حالة كبيرة من البلبلة والإرباك في الشارع التركي لم يكن لقوة أن تُبَدِّدها أو تحطمها سوى خطاب للقيادة السياسية المدنية.

وكانت المفاجأة بالنسبة للحكومة التركية ورئيسها، بن علي يلدرم، أنهما لم يعد باستطاعتهما الاتصال والحديث مع الجمهور الذي اعتادوا على مخاطبته عبر القناة الرسمية؛ لذلك لجأ يلدرم لبديل إعلامي آخر، وهو قناة “إن تي في” ( NTV كما ذكرنا آنفًا قناة خاصة أقرب إلى الحيادية، وجزء من شركة استثمارية تجارية)، وخرج بعد نحو ساعة من بدء المحاولة الانقلابية (11:30 ليلًا) بخطاب للجمهور اعترف خلاله بوجود محاولة انقلابية، وتوعَّد شبكة العسكريين المشاركين فيها بعقوبات قاسية، لكنه تعهَّد بالسيطرة على الوضع قريبًا، وقد كان أثر هذه الخطوة كبيرًا على الانقلابيين؛ إذ خلطت أوراقهم وسبَّبت لهم ارتباكًا كبيرًا؛ لأنها كان تعني فشلهم في عزل القيادة عن الجمهور.

في هذه الأثناء كان سَيْلُ الإشاعات وتدفُّق الأخبار مُجَهَّلة المصدر يَرُوجُ في منصَّات الإعلام الرقمي وبين الجماهير؛ إذ تناسلت إشاعات تُشكِّك في سلامة الرئيس رجب طيب أردوغان، وأخرى تشير إلى أن مصيره غير معروف، وثالثة تُروِّج لطلبه اللجوء إلى ألمانيا…إلخ. وهنا، أدركت القيادة السياسية التركية أن ثمة حاجة لرسالة إعلامية تُحطِّم تلك الإشاعات وتعيد الثقة للشارع التركي وترفع معنوياته، فجاء خطاب الرئيس أردوغان الحاسم رغم قصر مدته، وذلك في اتصال هاتفي عبر تطبيق الفيس تايم ( FaceTime ) مع قناة “سي إن إن تورك” ( CNN Türk ) المعارضة التي طالما انتقدها وانتقدته، بعد ساعتين ونصف من بدء المحاولة الانقلابية (12:26 صباحًا). وقد أحدث هذا الخطاب حالة ارتباك أكبر بكثير من تلك التي أثارها خطاب يلدرم في صفوف شبكة الانقلاب، بل رأى البعض أن رسالة الخطاب “كان لها دور مفصلي في إحباط الانقلاب” (6) ؛ إذ استطاع أردوغان من خلال هذه المكالمة الهاتفية حشد ملايين المواطنين في الميادين الرئيسية وحول المؤسسات الحيوية خلال فترة قياسية؛ حيث تدفَّق عشرات الآلاف من المواطنين إلى مطار أتاتورك لتحريره من قبضة العسكر.

في تلك اللحظات كانت وسائل الإعلام المقرَّبة من الحكومة والحزب الحاكم تُحرِّض الشعب وتحثه على النزول للشوارع والمشاركة في التصدي للانقلاب، كقنوات A Haber ، و TV Netوكذلك المواقع الإلكترونية الأكثر متابعة، مثل: صباح ويني شفق، بينما “اكتفت وسائل إعلام المعارضة بنقل الأحداث من زاوية إخبارية دون أن تتبنَّى موقفًا ما، لكن مع مرور الساعات وتجاوز حالة الصدمة، باتت تتخذ موقفًا واضحًا ضد الانقلاب” (7) .

وفي حدود الساعة الواحدة صباحًا قصفت مروحية عسكرية منشآت مؤسسة البث الفضائي في أنقرة بعد قطعها بثَّ التليفزيون الحكومي، وبعد ذلك حاولت السيطرة على ذات التليفزيون إلا أن الشرطة والمواطنين تمكنوا من صدهم وإيقافهم بحدود 2:20 صباحًا، وقد عاد البثُّ الطبيعي للتليفزيون في الساعة الثالثة فجرًا، وألقت الشرطة القبض على العسكريين المشاركين في محاولة السيطرة على مقره الرئيسي، وتم تحرير المذيعة “تيجان كاراش” التي تلت البيان الانقلابي قسرًا.

وفي سياق هذه اللحظة المفصلية في مسار الانقلاب ومآله، يمكن رصد مجموعة من الملاحظات حول تفاعل أطراف الصراع مع متغيراتها ومنها وسائل الإعلام:

أولًا : محاولة السيطرة على الإعلام الرسمي كانت تهدف لشلِّ وسيلة الاتصال الرسمية بين القيادة السياسية والشعب؛ لذلك تم تحييد ثم إخضاع شبكة TRT ، والسيطرة على الموقع الإلكتروني لرئاسة الأركان، الذي يعتبر وسيلة إعلامية حساسة، وإصدار بيانات باسمه، وهو ما جعل المراقب يشعر بأن مؤسسة الجيش بكاملها مشاركة في الانقلاب، قبل أن تصدر بيانات عن رئاسة الجمهورية تؤكد أن رئيس الأركان محتجز كرهينة، وأن البيانات التي تصدر باسمه مُزَوَّرَة.

ثانيًا : تميَّز موقف وسائل الإعلام الخاص مثل قناة NTV ، وأخرى معارضة مثل قناة CNN Türk بالمسؤولية؛ إذ أفسحت المجال للرئيس أردوغان رغم معارضتها الشديدة لحكمه انطلاقًا من المسؤولية الاجتماعية؛ حيث استشعرت الخطر الذي يتهدَّد البلاد، وهذا ما دفع مذيعة قناة CNN Türk ، “هاندة فيرات”، للمبادرة بالاتصال بأردوغان، وهي المكالمة التي سرت كالنار في الهشيم عبر الإعلام المحلي والعالمي.

ثالثًا : كانت مدة الاتصال مع القناة قصيرة، لكن أثرها كبير أبرز أهمية الرسالة الإعلامية في وقتها المناسب؛ ولذا فإن لعامل التوقيت أثرًا كبيرًا خلال الأزمات لا يقل عن دور الوسيلة والرسالة معًا.

رابعًا : في تلك الساعات الحرجة للانقلاب أعلنت وزارة الداخلية التركية الاستنفار في صفوفها واستدعت كل وحداتها وعناصرها للتصدي للانقلاب، كما أن صمود جهاز الاستخبارات شكَّل أيضًا عاملًا مهمًّا في إفشال الانقلاب. لذلك، فإن القول بأن عنصر الإعلام، أو أن اتصال أردوغان مع CNN Türk ، هو الذي حسم الصراع وأفشل الانقلاب تحليل ينطوي على كثير من المبالغة ويُحَمِّل الإعلام دورًا وأهمية أكبر مما في الواقع، كما أن استخدام عبارات مثل: “وسائل التواصل الاجتماعي تُفْشِل الانقلاب” (8) ، أو “تطبيق آبل يُنْقِذ تركيا” (9) تُعَبِّر عن رؤى غير دقيقة لفهم آليات تأثير وسائل الإعلام ومراحل هذا التأثير وشروطه وسياقاته، كما أنها ليست واقعية وعلمية؛ لأن دور الإعلام هنا كان مسانِدًا ورافعة بجانب الروافع والقوة الصلبة التي اعتمدتها الحكومة في إفشال الانقلاب؛ فلم تعتمد الحكومة التركية على تعبئة الجماهير والتأثير في الجوانب الشعورية واللاشعورية للأفراد، بل كانت هناك عوامل أخرى سياسية وثقافية واقتصادية.

لحظة فشل الانقلاب 

هناك اتجاهات أساسية سلكها الإعلام التركي بشكل عام بعد التأكد من فشل المحاولة الانقلابية، يمكن تلخيصها في:

الإدانة والرفض العام للمحاولة الانقلابية؛ حيث لم تجرؤ أية وسيلة إعلامية على الترويج أو حتى إيجاد بعض التبريرات للانقلاب.
تحميل المسؤولية لجماعة غولن والدعوة لتطهير مؤسسات الدولة منها، ومحاسبة شبكة العسكريين المتورطين في الانقلاب.
عدم الإساءة لمؤسسة الجيش، والتأكيد على أن الجيش مؤسسة وطنية وأن مدبري الانقلاب ثُلَّة قليلة تابعة لـ”الكيان الموازي”.
تمجيد الإعلام للشعب وإبراز دوره “البطولي” في إفشال الانقلاب.
اتجاه إعلامي موجَّه للخارج حاول إظهار تركيا قوية ومتماسكة، في الوقت ذاته دافع عن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة بحق الانقلابيين والتأكيد على قانونيتها.

فقد حدث إبَّان الانقلاب تعاضد سياسي رافقه تعاضد إعلامي غير معهود؛ فقد شكر الرئيس أردوغان أحزاب المعارضة على موقفها أثناء الانقلاب وبعده، كما استضاف أردوغان لأول مرة زعيمي أكبر حزبين معارضين في القصر الرئاسي بأنقرة للتباحث في قضايا ما بعد الانقلاب ومستقبل البلاد، وذلك يوم 25 يوليو/تموز 2016، إلى جانب ذلك بادرت شبكة TRT الرسمية باستضافة زعيم حزب الشعب الجمهوري لأول مرة منذ عام 2010، الذي انتقد بدوره القناة قائلًا: “لو لم يحدث ذلك لربما ما فكرتم بدعوتي واستضافتي” (10) . كما استضافت فضائيات معارضة مسؤولين حكوميين وآخرين في حزب العدالة والتنمية، مثل قناة Halk TV التابعة لحزب الشعب الجمهوري، التي أخذت تنفتح على الحكومة والحزب الحاكم، وراحت تستضيف مسؤوليهم بكثافة على شاشتها.

رغم أن جميع الأحزاب ووسائل الإعلام رفضت الانقلاب ورأت فيه خطرًا على الدولة والحياة الديمقراطية، فإن ذلك لم يَحُل دون كيل الاتهامات والانتقادات للحكومة والرئاسة، بل إن البعض حمَّل بصورة أو بأخرى مسؤولية محاولة الانقلاب للحكومة ولأردوغان، واعتبر حزب الشعوب الديمقراطية (الكردي) في الساعات الأولى أنَّ “ما حدث من محاولة انقلاب لعبة من أردوغان لترسيخ النظام الرئاسي الذي يحاول تطبيقه في البلاد” (11) ، كما سعى بعض إعلام المعارضة للاستثمار السياسي للأحداث ضد الحزب الحاكم لكن ليس بذات الحدَّة التي انتهجها ما قبل الانقلاب. فهذه صحيفة سوزجو Sözcü المعارضة، رغم انتقادها الشديد للحكومة، فإن ذلك لم يمنعها من وصف جماعة غولن في تغطياتها الإخبارية بـ”الجماعة الإرهابية”، بل واتهامها بالمسؤولية عن محاولة الانقلاب (12) .

الإعلام التركي، المعارض والموالي، تناول على نطاق واسع أيضًا الإجراءات التي اتخذتها الحكومة التركية ضد جماعة غولن ومؤسساتها في تركيا، حيث اعتقال وإقالة الآلاف، وإغلاق المئات من المدارس والجامعات ووسائل الإعلام التابعة لها، وقد حمل بعض هذه التغطيات الإعلامية طابعًا من السخرية (13) والشماتة، بينما حمل بعضه طابع الوعيد للحكومة.

وفي اليوم السادس للانقلاب انتقدت صحيفة جمهوريات المعارضة بشدة إعلان حالة الطوارئ في البلاد ونشرت أخبارًا وتقارير تشير إلى استياء شعبي وسياسي من القرار؛ حيث عرضت تصريحات زعماء الأحزاب السياسية المعارضة للقرار الصادر عن مجلس الأمن القومي، ولاسيما كمال كلتشدار أوغلو زعيم حزب الشعب الجمهوري، وأخرى لحزب الشعوب الديمقراطية، الذي اعتبر القرار هادِمًا للدستور (14) ، ونشرت جمهوريات في ذات اليوم تقريرًا بعنوان “بعد قرار حالة الطوارئ.. ردود فعل رافضة في وسائل التواصل الاجتماعي” وتخلَّل التقرير مجموعة من التغريدات لنشطاء معارضين للقرار (15) ، خلافًا لوسائل الإعلام المقربة من الحكومة التي روَّجت للقرار وعرضت مشاهد وأخبارًا تُبيِّن ترحيب المواطنين به. كما عكفت على نشر تصريحات المسؤولين الحكوميين التي تبرر القرار، وتؤكد ضرورته وأهميته خلال المرحلة المقبلة، وأنه لن يؤثِّر على حياة المواطنين اليومية (16) ، وحاول إعلام الحكومة عرض الآراء السياسية الموالية لقرار حالة الطوارئ، ولاسيما تصريحات زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهتشيلي، التي أشار فيها إلى أن حزبه يدعم قرار حالة الطوارئ (17) .

وكالة الأناضول المقربة من الحكومة، تبنَّت الرواية الرسمية بشكل كامل فيما يتعلق بمدبري الانقلاب، وكان تَوَجُّهُ الوكالة يصبُّ باتجاه اتهام جماعة غولن بتخطيط وتنفيذ الانقلاب، وتبنَّت رواية الحكومة أيضًا بأن الذين نفذوا المحاولة الفاشلة هم قلة قليلة من العسكر فقط، رغم أن الاعتقالات طالت معظم قيادات الجيش، كما أرفقت الوكالة الفقرة التالية في نهاية كل خبر يتعلق بالانقلاب (18) .

وعمدت وكالة الأناضول أيضًا إلى نشر الأخبار الدولية التي تساند موقف الحكومة وسياساتها تجاه المتورطين في محاولة الانقلاب، كالخبر الذي نُشر رابع أيام الانقلاب “واشنطن تقول: إن الإجراءات التركية عقب محاولة الانقلاب الفاشلة مفهومة ومبررة” (19) .

لكن تحاشي وكالة الأناضول، التي تعتبر وكالة دولية، توزيع الاتهامات على الأطراف الخارجية لم يمنع الوسائل الإعلامية الأخرى من توجيه الاتهامات إلى الولايات المتحدة وغيرها من الأطراف، كصحيفة يني شفق التي اتهمت الولايات المتحدة بتقديم الدعم لجماعة غولن، وتوفير الحماية لزعيم الجماعة الذي تستخدمه بالطريقة التي تريدها (20) . بينما راحت صحف أخرى إلى اتهام واشنطن بالتمويل والوقوف المباشر خلف محاولة الانقلاب مستخدمة ضباطًا لها بقاعدة إنجيرليك (21) .

ورغم أن أغلب قادة الفرق والألوية في الجيش التركي متورطون في المحاولة الانقلابية فإن الإعلام الرسمي التركي ووكالة الأناضول والناطقين باسم الحكومة كانوا يؤكدون في خطاباتهم على أن فئة قليلة من الجيش هي التي شاركت في الانقلاب، كما تجنَّب الإعلام التركي الإساءة لمؤسسة الجيش، بل عكف المسؤولون على تمجيدها، وتوجيه اتهاماته لجماعة غولن.

أمَّا قناة TRT   العربية فقد “ألغت كل نشراتها الإخبارية الاعتيادية في الأيام العشرة التي تلت محاولة الانقلاب، كما ألغت معظم البرامج، واستعاضت عن ذلك بتغطية إخبارية مفتوحة على مدار الساعة، استضافت خلالها العشرات من المفكِّرين والمحلِّلين والمراقبين” (22) . كما جعلت شعار التغطية على شاشتها “تركيا تنتصر على الانقلاب”، وهو النهج الذي اتبعه معظم القنوات الإخبارية التركية.

وبغضِّ النظر عن الفروقات في التغطية بين إعلام الموالاة والمعارضة، فإنه “لا يوجد قطاع في تركيا دعَّم الانقلاب، سواء إعلامها أو مؤسساتها أو حتى ساستها أو شعبها، باستثناء صحيفة زمان التي لم يعد لها منشورات ورقية، بل تكتفي بالمنصة الإلكترونية، حتى مجموعة دوغان الإعلامية وقفت ضد الانقلاب، الشيء الوحيد المختلف أو الذي دعَّم الانقلاب في الإعلام هم الانقلابيون أنفسهم الذين استخدموا وسائل سرية للتواصل بينهم والتخطيط للانقلاب وتنفيذه، أمَّا في العلن فلا توجد وسيلة إعلامية أيَّدت الانقلاب بشكل واضح” (23) .

الانقلاب وتطبيقات الإعلام الجديد  

ربما لن ينسى العالم هذه الصورة (24) التي بدأت تؤرِّخ لمرحلة مصيرية جديدة في تركيا؛ حيث تداولها الإعلام بسرعة بوسائله المختلفة، ولاسيما الإعلام الرقمي، وهذا يقودنا للتساؤل عن الدور الذي لعبه الإعلام الجديد في هذه المرحلة.

لقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا الاتصالات دورًا محوريًّا في عملية إحباط الانقلاب في تركيا؛ حيث أسهم  التدفُّق السريع للمعلومات في تشجيع الحشود الكبيرة من الشعب على النزول للشارع وتَمَكُّنِهِم من مواجهة المتمردين ودباباتهم. بينما ظنَّ الانقلابيون، باتباعهم قواعد المخطط  الانقلابي الكلاسيكي (القوة العسكرية) أو بالسيطرة على محطات تليفزيونية وقراءة بيان النصر قبل أوانه، أنهم سيتمكَّنون من تنفيذ انقلاب عسكري ناجح، ولكنهم فشلوا في تحديث هذا المخطط بطريقة تأخذ بعين الاعتبار واقع الإعلام الجديد، لذلك اعتُبرت محاولة السيطرة على مصادر المعلومات نسبية، وهو ما أسهم في فشل الانقلاب (25) .

وبرز خلال السنوات الأخيرة الدور الكبير لتقنيات الإعلام الجديد وتطبيقاته الحديثة في الصراعات والأزمات، فكما كان للتكنولوجيا فضل كبير في إشعال ثورات الربيع العربي واستمرارها ونجاح بعضها، كان لها أيضًا دور كبير خلال محاولة الانقلاب في تركيا، وقد استخدمت كل الأطراف هذه الأدوات؛ الانقلابيون والشعب وكذلك القيادة السياسية، لكن المثير أن شبكة العسكريين الذين اعتمدوا على التقنيات الحديثة أغفلوا أن الطرف الآخر يمكنه استخدامها بقوة فأهملوها.

مجموعة “صلح في الوطن” الانقلابية 

منذ عدَّة أشهر تعهَّدت إدارة تطبيق “واتس آب” واسع الانتشار بأن المحادثات التي تجري على التطبيق ستكون مشفرة وسرية، وأن الشركة لن تكشفها لمكتب التحقيقات الفيدرالي FPI (26)، ولعل اطمئنان مدبري الانقلاب في تركيا لهذه المعلومة ما دفعهم لاستثناء كل وسائل التواصل الأخرى واختيارها، ولهذا أنشأ الانقلابيون مجموعة واتس آب (لحظة ما قبل الانقلاب) أطلقوا عليها اسم “صلح في الوطن” ضمَّت عددًا من العسكريين تواصلوا خلالها من اللحظة الأولى لبدء التحركات العسكرية في البلاد، وتابعوا لحظة بلحظة سير العملية الانقلابية والتطورات الجديدة التي ظهرت والأماكن التي تمت السيطرة عليها، والأماكن التي استعصت أو أبدت مقاومة، وكان لافتًا في إحدى الرسائل الإصرار على السيطرة على القناة الرسمية TRT ، ومن بعدها قناة CNN Türk ، وهو ما يبيِّن أن مؤسسات الإعلام كانت على رأس المخطط من اللحظة الأولى. وقد تم الكشف عن المجموعة لاحقًا وإفشاء كل ما جاء فيها خلال التحقيقات، وهكذا أصبحت المجموعة حُجَّة عليهم بعد ساعات قليلة في المحاكم، لكن استخدام المجموعة يكشف أن جنرالات الجيش قد أدركوا فائدة الإعلام الجديد فقط من زاويتهم، فانتفعوا منها بينما أغفلوا أن الطرف الآخر يمكن أن ينتفع منها ليتصدى لهم.

حظر الفيسبوك وتويتر 

لقد كان مستخدمو الإنترنت في تركيا يواجهون مشكلة منع الوصول أو حجب مواقع التواصل الاجتماعي عقب كل تفجير أو هجوم إرهابي في البلاد، وذلك بقرار قضائي، لكن في ليلة انقلاب 15 يوليو/تموز تم تعطيل الوصول إلى مواقع التواصل الاجتماعي بدون قرار محكمة، بدءًا من الساعة 22:50 (بتوقيت أنقرة)، واستمر ساعتين، ومن أهم المواقع التي حُظرت؛ الفيسبوك، وتويتر، ويوتيوب، وهذا ما دفع بالكثير من النشطاء لاستخدام تقنيات بديلة مثل الواتس آب.

وقد أعلن موقع مختص بمتابعة مشاكل الوصول للإنترنت في تركيا على الفور أن الوصول للمواقع الثلاثة قد تم حظره من خلال هذه الرسالة (27) :

لكن، وبعد رفع حظر الوصول إلى موقع تويتر النشيط في تركيا بحدود الساعة 01:00 صباحًا تم إطلاق ما يزيد عن 18 مليون تغريدة باللغة التركية يوم 16 يوليو/تموز، بينما كان عدد التغريدات اليومي المعتاد على هذا الموقع نحو 6 مليون تغريدة بذات اللغة في الأيام السابقة لمحاولة الانقلاب (28) ، كما يُظهر هذا الشكل (29) :

وتتحدث مراكز رصد تركية عن أن عدد التغريدات على موقع تويتر خلال الفترة الواقعة بين تاريخي 15 و19 يوليو/تموز 2016 بلغت 50 مليون تغريدة باللغة التركية فقط، منها ما يزيد عن 27 مليون تغريدة متعلقة بالانقلاب، حسب مركز Adba International المختص بأبحاث الإنترنت (30) . وحسب المركز ذاته، فإن ما يزيد عن 7 ملايين تغريدة على موقع تويتر تم التغريد بها باللغة الإنجليزية على وسمين هما:# NoCoupInTurkey   و# TurkeyCoup في نفس الفترة.

واستمر نشطاء الإعلام الاجتماعي والمواطنون عدَّة أسابيع في المشاركة بمظاهرات “صون الديمقراطية” الليلية وتناقلوا مشاهد وصور مشاركاتهم تلك، كما تناقلوا الأخبار المتعلقة بالاعتقالات في صفوف شبكة العسكريين الذي قاموا بالانقلاب، وقد منحت شركات الاتصال في تركيا كل مستخدم للهاتف 500 ميجا بايت إنترنت و100 دقيقة اتصال مجانية لتسهيل تواصلهم واتصالاتهم خلال حالة الطوارئ، ومن أشهر الوسوم التي تم التغريد عليها في تركيا وسم # DarbeyeHay?r “لا للانقلاب”، # HakimiyetMilletindir “السيادة للشعب”، # ?ehitler?çinNöbeteDevam “مستمرون في التظاهر من أجل الشهداء”.

وتجاوز عدد المتفاعلين مع صفحة قناة TRT العربية على تويتر 25 مليونًا خلال الأيام الخمسة الأولى للانقلاب، منها عشرة ملايين في اليوم الأول (31) ، وقد تصدَّر تويتر أيضًا وسم أطلقته شبكة TRT  #MilletçeMeydanlarday?z يدعو الجماهير للبقاء في الميادين. وقد كان كبار المشاهير من الفنانين والصحفيين وغيرهم ينشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، وحتى القادة السياسيون وعلى رأسهم أردوغان ويلدرم تواصلوا مع جماهيرهم بتغريدات كما تُظهر هذه التغريدة التي أطلقها أردوغان ليلة الانقلاب وحقَّقت خلال دقائق ما يزيد عن 20 ألف إعادة، حثَّ فيها على النزول للميادين والمطارات لحماية الديمقراطية (32) .

الأمر ذاته تقريبًا كان على صفحة رئاسة الوزراء؛ حيث بثَّ يلدرم من خلالها رسائل تُطَمْئِن الجمهور بسيطرة الحكومة التركية على الوضع في البلاد وأنه لا داعي للقلق، وأخرى تدعو للتجمع في الميادين كما في التغريدتين التاليتين (33) :

الإعلام الجديد: متنفس أنصار غولن 

مشاهير كُتَّاب الصحف المغلقة لما يسمى بـ”الكيان الموازي” لجأوا أيضًا إلى الإعلام الجديد لممارسة الدعاية، وغالبيتهم ينشطون على تويتر، من أمثال: أوندار أيتاج Öndar aytac ، وأمرة أوزتورك Emre Öztürk ، وتونجاي أوبتشن Tüncay Opçin ، وهم ينتقدون الحكومة ويشتمونها على صفحاتهم، وبُعيْد الانقلاب تم رصد بعض التغريدات التي تشيد بالانقلاب وأخرى تلمِّح له بطريقة غير مباشرة، فقد ألقت السلطات التركية القبض على شخص في مدينة أدرنة قام بمدح الانقلاب وإهانة الرئيس (34) . كما لفتت الانتباه تغريدات أطلقها أعضاء في جماعة غولن، كتلك التي أطلقها تونجاي أوبتشن قبل الانقلاب بيوم واحد وتداولها الإعلام التركي على نطاق واسع كأحد الأدلة على تورط الجماعة بالانقلاب، يقول فيها: “سيقتحمون غرفة نومه ويعدمونه قبل الفجر” في إشارة إلى الرئيس أردوغان كما جاء في تقرير على صحيفة ستار (35) .

15 يوليو/تموز: نهاية عهد إعلام غولن

بعد محاولة الانقلاب بدأت الحكومة التركية بسلسلة من الإجراءات ضد جماعة غولن ومؤسساتها، وكان للمؤسسات الإعلامية حظ وافر من تلك الحملة، فقد صدر قرار عن المجلس الأعلى للإذاعة والتليفزيون في تركيا يقضي بـ”إلغاء كل تصاريح العمل الخاصة بالإذاعات ومحطات التليفزيون المقربة من جماعة غولن” (36) وعلى رأسها مجموعة قنوات “درب التبانة”، التي تأسَّست كما ذكرنا آنفًا عام 1993. أمَّا صحيفة زمان، التي كانت تعدُّ أشهر صحيفة في تركيا، فقد تغيَّر مضمونها كليًّا بعد تعيين وصي عليها لصالح الاعتدال في التعاطي مع الحكومة.

وضمن الإجراءات العقابية التي اتخذتها الحكومة ضد وسائل الإعلام التابعة لجماعة غولن والصحفيين المتعاونين معها أصدرت النيابة العامة في إسطنبول قرارات باعتقال 42 صحفيًّا في إطار التحقيقات المتعلقة بمحاولة الانقلاب، بينهم الصحفية المعروفة والبرلمانية السابقة، نازلي إليجاك، التي تبلغ من العمر 72 عامًا، وهو ما اعتبرته وسائل إعلام المعارضة استهدافًا لحرية الصحافة، لكن أغلب الوسائل الإعلامية تداولت الخبر باعتباره حربًا على الذراع الإعلامية لجماعة غولن.

وفي السابع والعشرين من يوليو/تموز أصدرت الحكومة التركية مرسومًا يقضي بإغلاق ما يزيد عن 130 وسيلة إعلامية تؤكد الحكومة التركية صلتها بجماعة “فتح الله غولن” (37) ، يلخصها الجدول رقم 4:

وبالتزامن مع ذلك صدرت مذكرات اعتقال بحق 88 صحفيًّا، ذكرت صحيفة يني شفق أن 47 منهم كُتَّاب في صحيفة زمان، اعتُقلوا بتهمة العضوية في منظمة مسلحة، ومن أبرز أولئك الكُتَّاب علي بولاتش، وممتازير تركونة، وشاهين ألباي (38) . وقد نشرت الصحيفة الصورة التالية التي توحي بأنها قائمة مجرمين.

استنتاجات  

يمكن إجمال المشهد الإعلامي التركي في التعاطي مع مسار المحاولة الانقلابية الفاشلة، ودور الإعلام خلال لحظاتها الثلاث قبل الانقلاب وأثناءه وما بعد الانقلاب، في الاستنتاجات الآتية:

تنافس أطراف الصراع على الإعلام

الأهمية القصوى للإعلام دفعت شبكة الانقلاب إلى السيطرة على المؤسسات الإعلامية الرسمية والخاصة، فقد كان العسكريون يسعون من خلال بيانهم الانقلابي الأول إلى مباغتة الشعب والحكومة وإحداث نوع من الصدمة القوية للشارع لإخضاعه وإجباره على القبول بالأمر الواقع، فحينما أعلن العسكر حظر التجوُّل في البلاد حتى الصباح، كان من الممكن أن يكون ذاك الحظر ساريًا، بيد أن التواصل السريع للحكومة والرئيس أردوغان مع الجمهور وبث رسائل إعلامية مضادة تسبَّب في كسر هذا الحظر، وهنا يظهر دور الإعلام كأحد الأدوات النوعية الفعَّالة في تعديل موازين القوى خلال الصراعات والأزمات.

التكنولوجيا لمن يُحْسِن استثمارها 

أحد مجالات الصراع التي برزت بوضوح خلال المحاولة الانقلابية هو مجال تكنولوجيا الاتصال؛ إذ سعى كل الأطراف لتطويع تلك التقنية لصالحه واستثمارها بأقصى قدر ممكن، فمدبِّرو الانقلاب استخدموا تطبيق الواتس آب للتواصل فيما بينهم ونقل مخططاتهم وأوامرهم إلى وحدات الجيش العاملة على الأرض. الأمر ذاته بالنسبة للحكومة ومؤيديها ورئيس الجمهورية الذي استخدم تطبيق “فيس تايم” في الساعة الأولى للمحاولة الانقلابية لطمأنة الجماهير على حياته وعلى سلامته، ولحشد أنصاره ودعوتهم للنزول إلى الميادين والمراكز الحيوية. كما اعتمد الإعلاميون والصحفيون والمواطنون العاديون على الواتس آب بشكل كبير ليلة الانقلاب بديلًا عن مواقع التواصل الاجتماعي التي تم حجبها وتعطيل الوصول إليها. ومن هنا نلاحظ أن التكنولوجيا بحدِّ ذاتها وسيط يستطيع الجميع استخدامه، لكن من يُحسن استثماره بصورة أفضل يزيد من فرص ربحه في الصراع.

الإعلام الجديد يتجاوز الإعلام التقليدي 

لقد أثبت الإعلام الجديد مرة أخرى تفوقه على الإعلام التقليدي في محاولة الانقلاب، ومن هنا تبرز أهمية الإعلام الجديد بصورة غير معهودة، فلدى عقد مقارنة بسيطة بين انقلاب يوليو/تموز 2016 على الرئيس أردوغان، وانقلاب عام 1960 على حكومة الرئيس عدنان مندريس نجد الفجوة الكبيرة والفرق الهائل في طبيعة الصراع الإعلامي في الحالتين؛ ففي عهد مندريس لم يكن يُستخدم في تركيا سوى الراديو كوسيلة إعلامية ذات اتجاه واحد، وعندما سيطر الانقلابيون على الراديو سيطروا بذلك على كل وسائل الإعلام والتواصل في البلاد، ولم تكن هناك تقنية أخرى لإيصال رسائل مضادة لحشد الجماهير أو توجيههم باتجاه مغاير. أمَّا في محاولة انقلاب 15 يوليو/تموز 2016 فقد كانت تطوراتها تُنقل نقلًا مباشرًا على مئات المنصات الإعلامية، وكان جنود المعركة الإعلامية هنا هم ملايين المواطنين الذين يوثِّقون بهواتفهم الذكية وينشرون كل زاوية وكل لحظة من لحظات الانقلاب، ولذلك لم يكن هناك تأثير جوهري لسيطرة العسكر على القناة الرسمية.

الأزمات بيئة خصبة للشائعات 

في الساعات الأولى لمحاولة الانقلاب في تركيا تناسلت الشائعات والأخبار مُجَهَّلَة المصدر، التي تَبيَّن لاحقًا أن جزءًا كبيرًا منها كاذب وعار عن الصحة، وقد كان لبعض هذه الأخبار الكاذبة وقع خطير على الجمهور، وتسبَّبت في تضليله ورُعْبِه، وقد وقع في شباك هذه الشائعات الكثير من المثقفين والإعلاميين بوعي أو بغير وعي، فلوحظ انتشار أخبار نقلًا عن مصادر خاصة، أو شهود غير معروف هويتهم، ومن الأمثلة على بعض الشائعات التي تم تداولها تلك التي تحدثت عن اغتيال الرئيس أردوغان وأخرى عن طلبه اللجوء لألمانيا، وشائعات عن اغتيال رئيس الأركان خلوصي أكار، وأخرى عن بسط الجيش سيطرته على كل مفاصل الدولة. الرد الأمثل والأقوى على مثل هذه الشائعات طبعًا هو إثبات عكسها في الوقت المناسب؛ حيث إن التأخر قد لا يُفضي إلى نتيجة إيجابية، وهكذا لاحظنا أن رئيس الحكومة يلدريم قد خرج بخطاب عاجل على قناة NTV ، ورأينا أردوغان يثبت سلامته ويتحدث بثقة عالية في أحلك الأوقات، ومن هنا يمكن القول: إن من سلبيات الإعلام الجديد أنه تقنية تسمح بقدر كبير من الشائعات والأخبار المضللة دون رقيب أو حسيب.

للإعلام دور مُكَمِّل في حسم الأزمات 

ليس بالإعلام وحده تُحسم المعارك وتتحقق الانتصارات، وإنما باعتماد عوامل قوة كثيرة (صلبة وناعمة)؛ ففي الحالة التركية فشل الانقلاب لاستناد الحكومة على قاعدة مؤسساتية صلبة، كالشرطة والاستخبارات، يضاف إلى ذلك عدم مشاركة كل الجيش في الانقلاب، وكذلك وعي الشعب وتوحد الأحزاب السياسية، ولا يمكن إغفال الكاريزما القيادية التي يتمتع بها أردوغان والقرارات الحاسمة التي اتخذتها الحكومة، وعوامل أخرى. يأتي دور الإعلام هنا مُكَمِّلًا يقترب إلى الدور الأساسي، لكن لا يمكن المبالغة في دوره في إفشال الانقلاب.

الإعلام التركي يتوحَّد ضد الانقلاب 

من المعروف عن الإعلام التركي أنه شديد التناقض والتباين، ولا يتفق حتى على مسلَّمات مثل “أتاتورك” ولاسيما في السنوات الأخيرة، لكن ولأول مرة يتوحد خطاب الإعلام التركي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في موقف حاسم وصريح رفضًا للمحاولة الانقلابية وإدانةً لها، وربما يصعب فهم هذه المعادلة المهمة دون فهم تاريخ هذا البلد، الذي مرَّ بأربعة انقلابات دموية، ولذا فإن إدراك عموم الشعب والأحزاب السياسية والمؤسسات الإعلامية لخطورة هذه الحالة دفع بهم لطي كل خلافاتهم لصالح دعم النظام الديمقراطي الذي ينعم فيه الجميع بحرية لم يعهدوها طوال عقود، لذلك لم يكن غريبًا أن فتحت أشد القنوات معارضةً لأردوغان وحكومته مجالها لهم في اللحظات الحاسمة.

 

 

—————————————————————————————————————

2
This free e-book was created with
Ourboox.com

Create your own amazing e-book!
It's simple and free.

Start now

Ad Remove Ads [X]
Skip to content